كوينتين تارانتينو: "تكهنات السينما"، وسينما السبعينيّات

صلاح سرميني/باريس
في اللغة الفرنسية، أو الإنكليزية، (Speculation) تعني عمليةٌ ماليةٌ، أو تجاريةٌ على أساس تقلبات السوق، مُمارسة هذه العمليات، والمٌضاربة في سوق الأسهم.
وهنا يمكن ترجمة عنوان الكتاب الثاني "غير الروائي" للمخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو بـ "تخمينات، أو تكهنات، أو مضارباتٍ سينمائية"، ولكن، هذا لا يكفي كي يتكهن، أو يخمّن القارئ محتوى الكتاب، خاصةً وأنه منذ آخر أفلامه"حدث ذات مرة... في هوليوود" (2019) يحاول عُشاق المخرج، وسينماه معرفة ما سوف يقدمه في فيلمه العاشر المُنتظر (يعتبر الجزء الأول، والثاني من Kill Bill فيلماً واحداً).
والسؤال أيضاً، لماذا يعمد هذا المخرج اللامع من بين مُعاصريه إلى تأليف كتابٍ، وهو الذي بمقدوره إنجاز فيلم كلّ عام؟
من الواضح بأن تارانتينو شغوفٌ بالكتابة كما هوسه بالسينما، وبمراجعةٍ بسيطة لمسيرته السينمائية (9 أفلام وُفق حسبته لها)، سوف نجد بأنه كتب سيناريوهات كلّ أفلامه، كما كتب، وشارك في كتابة سيناريوهات مخرجين آخرين.
وكما كان، وما يزال السينيفيليون ينبشون أفلامه بطريقةٍ أثريةٍ كي يعثروا فيها على لُقى فيلمية مختبئة بذكاءٍ في ثناياها (استعارات، تأثرات، تكريمات، مرجعيات...)، سوف يفعل هؤلاء نفس الشيء مع كتابه للتعرّف أكثر على عوالمه المُتعددة المصادر الفيلمية، والولوج في صفحاته من أجل اكتشاف، أو إعادة اكتشاف مكتبته السينمائية المخزونة في ذاكرته.
في أفلامه نعثر على لقطاتٍ، ومشاهد، وحواراتٍ، وملصقاتٍ، وأسماء، وعناوين...تحتفي بالأفلام التي يحبها، ويبعث ذكراها كما أنواع سينمائية مهملة، أو منسيّة (مثل: أفلام استثمار الأمريكيين من أصولٍ أفريقية، أو أصحاب البشرة السمراء Blaxploitation/)، وممثلين طواهم النسيان (مثل: بام جرير، جون ترافولتا، ....)، ويبدو الحال نفسه مع تكهنات كتابه، وتخميناته.
نعم، لا يكتفي كوينتين تارانتينو بأنه_ومنذ فيلمه الأول_ أصبح واحداً من أكثر المخرجين الموهوبين، والمحبوبين في جيله، ولكن ولعه بالسينما جعله يعرف جيداً كيف يتحدث عن الأفلام، وينقل شغفه المُتوهج بها.
***
بتاريخ 29 مارس 2023، استقبلت الصالة الكبرى "جراند ركس" بباريس، أجمل صالات العالم، وأضخمها كوينتين تارانتينو، وكان الحوار مع تيري فريمو المُفوّض العام لمهرجان كان، ومدير معهد لوميير في ليون حول كتاب "تكهنات سينمائية"، ومن بين توضيحات تارانتينو:
"كنت أرغب دائماً في تأليف كتابٍ عن السينما، لكنني لم أكن أعرف الشكل الذي سيتخذه، أردت فقط أن يكون عن أفلام هوليوود الجديدة التي عُرضت خلال الأعوام 1967 و1981.
كان الهدف كتابة شيء طريف، ومقنع في نفس الوقت، بدأت في كتابة الفصل الأول الذي يشرح كيف بدأ عشقي السينمائي في سنٍ مبكرة، إنه توضيح، وتفسير الغرض من الكتاب.
ثم قلت لنفسي: يجب أن تكون أفلاماً رأيتها عندما عُرضت، وهذا ما جعله كتاباً، وليس مجموعة مقالات".
وفي ذلك اللقاء يجلد كوينتين بعض الصحفيين الذين ينتقدون كتابه، والذين، إذا سلمنا بأنهم شاهدوا الأفلام التي يتحدث عنها - ولا سيما Deliverance أو Bullitt أو Guet-apens أو Taxi Driver أو Escape from Alcatraz - "فإنهم لم يشاهدوها وقت عرضها، أيّ في سياق زمنها، وكما يقول :"وهذا ما يصنع الفارق".
كيف اختار الأفلام التي كان سيتحدث عنها؟
لقد فرضت نفسها، لأن لديه "ما يقوله عنها".
وهذا الأمر لا ينطبق على كل الأفلام: "أنا أحب Apocalypse Now ولكن ليس لديّ أيّ شيء مثير للاهتمام لأقوله حول هذا الموضوع".
بفضل والدته وزوجها، وكلاهما من عشاق السينما، اللذان كانا يأخذانه معهما بانتظامٍ إلى السينما، وجد كوينتين الصغير نفسه في كثير من الأحيان، وبفخرٍ كبير، الطفل الوحيد في الصالة.
"أحببت السينما أكثر من أيّ نشاطٍ آخر، أكثر من الموسيقى، أكثر من الرياضة (...) جمعت الكثير من المعلومات، وذهبت إلى المكتبة لتدوين ملاحظاتٍ عن الأفلام.
لقد فعلت هذا طوال طفولتي، كنت فاشلاً في المدرسة، لكني كنت لا أُهزم في الأفلام، والممثلين".
في وقتٍ مبكر من حياته، ومن سنّ السابعة، بدأ يتعرّف على أفلام البالغين، والمشاهد شديدة العنف التي لم يُسمح لزملائه في الفصل برؤيتها إلاّ بعد ذلك بكثير.
الفيلم الوحيد الذي لم يستطع تحمّل عنفه هو Bambi (إخراج دافيد د.هاند، إنتاج 1942)، هذا الفيلم الذي "يُبكي الأطفال كثيراً، ويؤذي مشاعرهم"، كما يكشف في كتابه.
ويتذكر بأنه غالباً ما اُتهم بالعنف غير المُبرر في أفلامه، وقد سأل والدته ذات يومٍ لماذا سمحت له بمشاهدة الأفلام الطويلة التي لم يتمكن زملاؤه من مشاهدتها.
ردت: "أنا أشعر بالقلق أكثر عندما تشاهد الأخبار، الفيلم لا يمكن أن يؤذيك".
ومع ذلك، ذات يوم، رفضت اصطحابه لمشاهدة فيلم، ولم ينسَ أبداً حججها، حيث أخبرته بـ "أنه فيلم عنيفٌ للغاية، لكنك لن تفهم القصة، وبما أنك لن تفهم السياق، سوف تشاهد مشاهد العنف من أجل العنف، وهذا، ما لا أريده لك".
عرض محتويات الكتاب لا يتوقف عند هذا الحدّ، حيث أن تارانتينو، هذا المُشاغب السينمائي صاحب صالةٍ في لوس أنجلوس، "نيو بيفرلي" منذ عام 2007، والذي يضمن شخصياً برمجتها، حظر عرض أفلام بالتنسيق الرقمي في صالته.
وعن هذا الموضوع يوضح: "لديّ أسبابي، والأكثر واقعيةً هي أن الشريط الحساس 35 مللي شيءٌ مميّز، انه فريدٌ من نوعه (...) أنا رومانسيٌّ جداً حيال ذلك (...) لا يوجد تاريخٌ لقرص DVD الذي يتمّ تشغيله على الكمبيوتر".
· المُؤلف: كوينتين تارانتينو، ترجمة: نيكولاس ريتشارد، صدر عن دار نشر فلاماريون، تاريخ الإصدار 22 مارس 2023.
نُشرت المقالة في صفحة السينما بجريدة القاهرة بتاريخ 1 يوليو 2023
Comments