فيلم Anora: سندريلا المعاصرة التي خطفت سعفة كان الذهبية
- ساندي ليلا
- 6 فبراير
- 5 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 7 فبراير

كتبت: ساندي ليلا
يقال أن وجوه الحب سبعة تتعدد وتتنوع باختلاف أزمانها وأماكنها بعض هذه القصص تعيش إلى الأبد وبعضها يقع في فخ الابتذال والتكرار الذي يودي بها إلى هوة النسيان، لكن المخرج شون بيكر غريب الأطوار نجح في كشف وجه جديد للحب، وجه لم يخطر على بال أي كان، مخترقاً عوالماً محظورة لم تعرف يوما الحب والأمان كي يروي لنا حكاية بطلته غير المعتادة، أنورا التي كادت أن تجعل المستحيل ممكناً.
تدور قصة فيلم Anora في أجواء تمزج الكوميديا بالدراما، حيث يحكي قصة أنورا أو آني راقصة التعري، والمرافقة البالغة من العمر 23 عاماً، والتي تعيش في نيويورك، ذات يوم تلتقي أني بفانيا الوريث الروسي فاحش الثراء،فيما خطط له أن يكون علاقة عابرة لتزجية الوقت، لكن فانيا غريب الأطوار المدلل يعرض عليها الزواج فجأة، فتجد فيه فرصة مثالية كي تخرج من عالمها إلى العالم الذي دائماً ما طمحت إليه.
لقد كان فانيا وسيلتها للهرب من الظروف القاسية التي أرغمتها على بيع جسدها كي تعيش، لو كنت تظن أن القصة انتهت هنا وعاشت أني بسعادة فأنت لا تعرف شون بيكر، هذه ليست قصة حب كلاسيكية مملة، حيث تنجح الفتاة الاستغلالية في مساعيها، إذ أنه وفور سماع الخبر يرسل والدا الفتى الغاضبين من تهور ابنهما الأحمق ثلاثة من رجالهم لإبطال الزواج وترتيب الفوضى، ليتحول مسار الفيلم تحولاً جذرياً ، كان السبب الأساسي في كونه استثنائياً بشدة.
يعرف بيكر كيف يروي قصص الحب المبتذلة المطروقة بطريقة مختلفة تجعلها مميزة، إذ قدم فيلمه كاستعراض درامي كوميدي ذكي وتشريح سينمائي دقيق للمجتمع الأميركي، عن طريق أسلوب سردي محكم يخترق بيكر بفجاجة صادمة في عالم تجارة الجنس، الذي لا يجرؤ الكثيرون على التلميح إليه فضلاً عن استعراضه، لكن بيكر يقتحمه اقتحاماً داعياً المشاهد لإلقاء نظرة أوضح وأكثر واقعية على أولئك المنسيين المنبوذين.
يعتمد الفيلم على أسلوب الطرح المباشر لعرض الحكاية، ويغوص بدقة في أحداثها، أسلوب لائم أجواء الفيلم الفريدة المفعمة بالواقعية القاسية التي لا مهرب منها سوى الحلم.
يغوص بنا الفيلم في أعماق أبطاله النفسية والحياتية مفضلاً هذا كبديل عن الحوارات الطويلة، مما يخلق تجربة مشاهدة لطيفة بانتقالات محسوبة بين الدراما والكوميديا انتقالات تنبع من الشخصيات نفسها مما يعزز عنصر المفاجأة في العمل.
يسلط الفيلم أيضاً الضوء على المجتمع الأميركي الظالم، عن طريق التركيز على معاناة أنورا كمهاجرة مهمشة، وعاملة في مجال الجنس، ونجح في التعامل مع قضايا شائكة كالتفاوت الطبقي والأحكام المسبقة الذي تأجج بوضوح في مشهد لقاء والدي فانيا بعروس ابنهما، إنهما يرفضان بشكل قاطع معاملة أني كإنسان، فبالنسبة لهما هي مجرد امرأة جشعة، ترى في ابنهما الأحمق سلماً يخرجها من عالم الدعارة الذي غرقت فيه منذ أعوام نسيت عددها.
كأي فيلم آخر لشون بيكر لعبت الهوية البصرية للفيلم دوراً مهماً في الأحداث، فالصورة تساوي ألف كلمة، يستخدم الفيلم الألوان الزاهية الفاقعة كانعكاس نفسي لحياة أني الصاخبة المفعمة بالفوضى، خاصة في تلك المشاهد التي تدور أحداثها في شوارع برايتون بيتش.
تلتقط الكاميرا تلك التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو مهمشة في البدء لكنها في الحقيقة عامل بصري مهم في إدراكنا لحياة العزلة البائسة التي تعيشها أني، على النقيض نجد عالم إيفان نظيفاً منظماً بألوان هادئة ناعمة تبرز الفروق الشاسعة بين عالمي الحبيبين، عالم أنورا حيوي مليء بالحركة وشغف الحياة، أما عالم إيفان بارد نمطي يخلو من أي عواطف.
رغم كونه اختياراً غير معهود إلا أن أسلوب التصوير بالكاميرا المحمولة أضفى واقعية محببة على الفيلم، وجعلنا كمشاهدين مندمجين كأننا نعيش الأحداث معهم، فطريقة تتبع الكاميرا للشخصيات تخلق حميمية تجعل وجود الحوار غير ضروري أحياناً، يكفي أن ننظر إلى ملامح وجوه أبطالنا كي ندرك كل ما يدور في خفايا أنفسهم.
لم تكن الهوية البصرية لأنورا مجرد عنصر جمالي آخر، إنما كانت عامل جذب وأداة سردية مهمة، إنها جزء لا يتجزأ من القصة، جماليتها ودقتها تجعلنا نضع الفيلم في خانة الأعمال التي تتكلم لغة الصورة بدون لحظة تردد واحدة.
كما لعبت الشخصيات المكتوبة ببراعة دوراً محورياً في تفرد الفيلم، فبطلته أني ليست فتاة عادية حمقاء، إنها راقصة تعر ذكية أصلب بكثير مما تظهر شرسة عندما ترغم على مالا ترغب، إنها سندريلا الأقل رقياً، فتاة بائسة تنتظر أميرها الوسيم كي يخرجها من الفقر والألم.
تشبه أني الإعصار في حدتها، وغضبها، إنها نارية شرسة عنيفة، لكن تحت هذا كله هناك هشاشة وانقسام ذاتي، يتجلى في استخدامها اسم أني عوضاً عن أنورا، وإصرارها على استخدام الإنجليزية رغم أنها روسية المنشأ.
عندما يتدخل البلطجيان لإرغام زوجها المصون على التخلي عنها، فإن ردة فعلها كانت غير متوقعة قطعاً، إنها تركل وتعض ببساطة تريد ألا تقيد، الأمر الذي يظهر وحشياً ومضحكاً في آن، تسمح أني لنفسها بأن تعتقد أن هذا حقيقي، وأن الزواج سيخرجها من عالمها إنها لا تكترث كثيراً لفانيا، لكنه يرغب في الزواج منها، كما أنه فاحش الثراء، وهذا أكثر من كاف لها، إنها تتجه إلى الهاوية غير عالمة بما ينتظرها.
لا شك أن كتابة شخصية أني كان رائعاً، لكن حبنا للشخصية كان مرده الأداء المثالي لبطلة العمل، وجوهرته الثمينة ميكي ماديسون.
ميكي التي قدم لها الدور على طبق من ذهب دون أي اختبار أداء باقتناع مطلق من بيكر أنها أنورا المثالية، فكانت على قدر التحدي، وأثبتت مجدداً أنها قادرة على تطويع ملامح وجهها الجميل بسهولة، خاصة في المشاهد الصامتة التي تخلو من أي حوار. لقد جسدت ميكي شخصية أنورا ببراعة، وحيوية، وعبرت بمهارة عن تناقضاتها متفادية فخ الابتذال بسلاسة، خاصة في مشهد مواجهتها لعائلة فانيا، إذ استطاعت جعلنا متعاطفين بشدة مع أنورا القوية الصامدة، رغم كل الهشاشة والضعف في داخلها في صراعها ضد الطبقية والتمييز.
لقد حملت ماديسون الفيلم على عاتقها، مقدمة شخصية معقدة صعبة بأسلوب حقيقي حساس جعلها تستحق وبجدارة ترشيحها الأول للأوسكار.
إضافة إلى كل هذا استطاعت ميكي خلق انسجام وتناغم جذاب مع شريكها في البطولة الممثل مارك الكسندروفيتش ايديلستين، الذي قدم بدوره أداء متماسكاً مجسداً دور فانيا زخاروف، العاشق المتهور، والطفل المدلل.
لم يكن فانيا فارس الأحلام الذي انتظرته أني طويلاً بالضبط، إنه بارد منعزل مشتت لكنه في لحظة شجاعة نادرة تزوج بأني رغم كل الفوارق الطبقية المخيفة، ورغم علمه برأي والديه.
إنه غير جدير بالثقة، غريب الأطوار، مهمش، يدرك في أعماقه أن هذه العلاقة لن تنجح وأنها مجرد نزوة، ضعفه يتناقض بفجاجة مع شجاعة أني في مشهد النهاية.
لقد كانت قصتهما مهزلة كوميدية سوداء، مزيج غريب من العنف والمخدرات والهستيريا، كان فانيا ورغم ثروته الفاحشة بائساً كالمرافقة التي أصر على الزواج بها.
لقد نجح مارك ايديلستين في إضافة طبقات من العمق لشخصيته، ونجح في أن يتألق إلى جانب شخصية أنورا الصاخبة الحيوية، رغم هدوءه وبروده، لقد منح أداؤه الفيلم بعداً إنسانياً أساسياً، وكان أفضل شريك تمثيلي يمكن لميكي أن تطلبه.
لا يكترث بيكر كثيراً للشخصيات الثانوية، خاصة والدا فانيا اللذان قدما بشكل سطحي كزوجين من الأثرياء المتعصبين لطبقتهم، لربما لو أنه منحهم القليل من العمق، لكنا قد استمتعنا بالفيلم أكثر، لكن ثنائية ماديسون وايديلشتاين كانت كافية للنهوض بالفيلم، وتقديم الحكاية المبتذلة المطروقة بأسلوب جديد جذاب.
لقد أغرم النقاد بأنورا، واعتبره كثير منهم أفضل أعمال العام، ففي الظاهر يبدو الفيلم مجرد قصة مبتذلة أخرى، لكن سحره يكمن في التفاصيل في تلك الواقعية القاسية، وفي كونه مختلفاً عن أي عمل آخر شاهدناه .
لم يكن الفيلم قصة حب، فالحب والرومانسية لا وجود لهما هنا، كل من البطلين يدرك في أعماقه أن علاقتهما تجارية نفعية بحتة، لكنهما يقنعان نفسيهما بأن شرارة الحب المستعرة هي دافعهما الأول وأن علاقتهما الزائفة قد تنجح، لكن أحلامهما الوردية تنهار بتسارع مقلق مع كل منعطف، خاصة بعد حفل الزفاف المستعجل، لتتحول قصة الحب الصاخبة إلى حطام قطار مأساوي، يزداد ظلاماً مع تقدم الأحداث.
ظلامية ينجح بيكر في تطويعها بواسطة كوميديا رائعة لا تقل فجاجة عن الدراما التي أغرقنا بها، إن أنورا فيلم مضحك ومحزن في آن واحد، صاخب وحميمي، إنه حكاية عن قسوة الحياة، والأحلام المطحونة، ونقد اجتماعي دقيق لمجتمع رأسمالي لا يرحم الضعفاء، وعمل يصعب بشدة أن ينسى.
Comments