بغياب 10 دول قدمت ترشيحاتها العام الماضي، إدراج 85 فيلماً ضمن القائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي.
صلاح سرميني/باريس
هل يمكن أن تتشكّل قصة حبٍّ بين شخصيّن متعارضيّن؟
هذه واحدةٌ من التيمات الجوهرية لفيلم (مطر حمص) للمخرج السوري جود سعيد، من إنتاج المؤسّسة العامة للسينما بدمشق عام 2017.
فيلمٌ عن الجنون البشريّ، حيث مآسي لا يمكن احتمالها، أو تفسيرها عقلياً تتحوّل إلى كوميديا عبثية، وفضاء حربٍ، وكأنها لعبة مراهقين.
في الفيلم سوف نجد روح نكتة شاميّة في حواراتٍ أمتعتنا سابقاً عند الأقدم، السوريّ عبد اللطيف عبد الحميد، وواقعية سحرية متوفرة في بعض أفلام الصربي إمير كوستاريتزا، وهزلاً ساخراً عند الفلسطيني إيليا سليمان، وشعريةً بصريةً/صوتية عند السوفييتيّ أندريه تاركوفسكي،.. وحتى فضاءاتٍ مكانية تُحيلك إلى ساحات القتال عند الإيطالي سيرجي ليوني.
فيلمٌ بنهكةٍ تختلط فيها الكثير من المُكوّنات الحلوة، والمرّة، وعلى الرغم من الألم الذي يجرح المتفرج في كلّ لقطة، إلاّ أنه أبعد ما يكون فيلماً بكائياً.
وعلى عكس كلّ الصور النمطية، والحقيقية التي عرفناها منذ بداية الأحداث في سورية عن المجموعات الجهادية التكفيرية، يقدم جود سعيد صورةً مختلفة.
أبوعبد الله (تمثيل جود سعيد نفسه) يهتمّ بمظهره، حسن الهندام، قصير الشعر، ذقن خفيفة (على الموضة)، شخصيةٌ خارجةٌ من حكايات ألف، وليلة وليلة (وياليتها لم تخرج)، وعلى الرغم من الوحشية التي جلبها معه من غياهب التاريخ، وقابعة في داخله، إلاّ أنه شخصية ظريفةٌ، باردةٌ، قاطعةٌ، جنائزيةٌ، يفوح منها الموت، ويبدو، والله أعلم، بأنه يُعيد تمثيل لعبة "شرطة، وحرامية" التي التي كان يلعبها في طفولته مع نفس خصومه القدامى، والحاليين بعد أن تحوّلت هذه اللعبة إلى حقيقة، وخرجت عن سيطرة المغامرات المُسلية في أزقة الأحياء.
الصورة أدناه، تظهر المواجهة في إحدى ساحات حمص بين أبو عبد الله "جود سعيد"، ويوسف المُوالي "محمد الأحمد"، تكوينٌ سينمائيّ مدروسٌ يحوّل الواقع إلى نوعٍ من الفانتازيا المُستقبلية يختلط فيها الماضي بالمستقبل، ويمتزج فيها روح أفلام الويسترن بين صائد الجوائز، وزعيم عصابةٍ من الأشرار.
عن طريق هذه الخيارات الجمالية، يبدو بأن جود سعيد لا يرغب استجداء التعاطف، والدموع بقدر الرغبة في تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين ابتسامةٍ هنا (وحتى ضحكة)، ودمعةٍ هناك (وحتى شهقة) مع مقدارٍ من السخرية الأكثر مرارة.
· من حوارات فيلم (مطر حمص).
"فيلم هندي سخيف، هادا واقع، هي سورية الربيع العربي، بذمتك، في شعب بينام أكتر من 10 ساعات بإمكانو يعمل ربيع عربي؟".
وأنا البعيد، أقول: لا.
**********
في فيلم ((UNE FAMILLE SYRIENNE"عائلةٌ سورية، إنتاج عام 2017 للمخرج البلجيكي Philippe Van Leeuw لا يوجد أيّ شيء يمكن تصديقه، أو الاقتناع به، بدءاً من اللهجة الشامية للخادمة الهندية (والتي تنطقها في الفيلم أفضل مني)، وانتهاءً بإظهار عائلة سورية جبانة.
أراهن بأن المخرج لم تطأ قدماه يوماً أرضاً سورية، وأنه في فترة الكتابة، والتحضير، والتصوير، لم يكن يعرف كم ثمن كيلو الخبز في دمشق، ولا حتى أين يقع حيّ المزّة.
أقصى ما فعله، أنه استمع إلى قصص، وحكايات، واستشارات السوريين (المُعارضين عن بعد، وحاسين بالخطر أكثر من الناس اللي عايشين في قلب البلد نفسها)، والذين تركوا سورية منذ الشهور الأولى للأحداث.
ولكن، ولا واحد منهم (والبعض منهم مارس العمل السينمائي) نبّه المخرج، وقال له :
ـ يا فيليب، بيتٌ في منطقة مواجهاتٍ مسلحة، وصواريخ، وقذائف في كلّ لحظة لا يمكن أن يكون هكذا، ولا يكفي عندما نسمع انفجاراً عن بعدٍ أن تهتزّ الكاميرا فقط، روح عيش بنفسك بعض الأيام في أحد البيوت، وسوف تلاحظ بأن البيت سوف يهتزّ، وأن أشياء سوف تقع، وتتحطم...على الأقلّ زجاج النوافذ يا فيليب.
ـ يا فيليب، لا أحد يضع على باب بيته من الداخل قطعةً من الخشب كي لا يدخله أحد، من يريد أن يدخله سوف يدخله حتى لو وضعت العائلة صخرةً خلف الباب.
ـ يا فيليب، لقد حصلت على أموال كثيرة من أجل إخراج فيلم صُور بكامله في بيت.. كان الأحرى بكَ زيارة دمشق، وتشوف بنفسك بيت في منطقة مواجهاتٍ عسكرية.
ومع ذلك، يحصل الفيلم على تمويلٍ فرنسيّ، وبلجيكيّ، ومساهمةً لبنانية، ويشارك في مهرجان برلين، ويعرض في الصالات الأوروبية......
والأكثر طرافةً، بأن كلّ السوريين، والعرب الذين قدموا خدماتهم لهذا الفيلم مبسوطين وهم يشاهدون مخرجاً بلجيكياً يُظهر عائلةً سوريةً جبانة، ويتلاعب بعقول، وعواطف المتفرج الأجنبي.
بينما (مطر حمص) لـ"جود سعيد" فيلمُ تفوح منه رائحة الأرض تمنعه الظروف من الوصول إلى أيّ مكانٍ في أوروبا.
في أحد مشاهد فيلم (عائلة سورية) يصل الابتزاز العاطفي، والتلفيق الثوريّ إلى أقصاه عندما يدخل رجلان إلى بيت العائلة السورية، ويغتصب أحدهم "حليمة" الجارة الشابة الجميلة التي لا تعرف حتى تلك اللحظة بأن قناصاً أطلق الرصاص على زوجها عندما خرج من البيت صباحاً.
الرجلان بملابس مدنية ـ كما فهمنا من الفيلم ـ ضابطٌ، أو مسؤولٌ في الدفاع المدني، وجنديٌّ، يدخلان إلى البيت، بعد محاولاتٍ سلمية، ولطيفة، ...ومن بين الحوارات البليدة التي نسمعها:
يشتمها الجندي (يا شر.....، يكررها أكثر من مرة، وكأن قاموس الشتائم توقف عند هذه الكلمة فقط)، ويسألها عن الآخرين الموجودين في البيت مع أنه بإمكانهما تفتيش البيت بكلّ ببساطة، والعثور على بقية أفراد العائلة الجبانة المُختبئة في المطبخ، والذين تركوا أحد الرجال يغتصبها بدون أن يتدخل أي واحد منهم حيث كانت الجدة (من المفترض بأنها صخرة العائلة) تمنعهم، في الوقت الذي نسمع بكاء الطفل الرضيع للجارة التي تُغتصب (مشهدٌ كهذا لا نعثر عليه حتى في أبشع الأفلام الهندية).
أيضاً، لا نعرف لماذا دخل الرجلان إلى البيت، وبعد كلّ هذا المشهد البكائي جداًً غادره الجندي، وترك الضابط وحده يمارس هواية الاغتصاب.
ولن يفهم المتفرج أيضاً لماذا رضخت الفتاة للضابط بشرط أن لا يلمسها الجندي الآخر، حتى أنها وعدته بأن يعود في كلّ مرة يريد اغتصابها (في أي وقت بيجي ع بالك)، إذاً طلعت "حليمة" فعلاً كما كان الجندي يشتمها.
على حدّ علمي، ومنذ بداية الأحداث في سورية، لم أسمع عن ضابطٍ، أو مسؤولٍ، أو جنديٍّ اغتصب امرأة سورية، كلّ الجرائم التي كنا نسمع عنها كانت من الجهاديين التكفيريين، حتى أنني سمعت بأنه إذا وضع أحدهم يده على فتاةٍ، أو امرأةٍ، أو حتى سيارة، أو غسالة، وقال: الله أكبر، أصبحت حلالاً له.
وهنا لا أفهم هذا (العهر الفكري) الذي ارتكبه البعض من معارضي الخارج بمنح الشرعية لقصة كهذه في فيلم، وهكذا أحداث ملفقة، ....ربما فقط من أجل منح ذرائع للنيل من سورية، وتدميرها.
من جهةٍ أخرى، وفي يومٍ ما، لن يطول كثيراً، سوف يثبت التاريخ بأن فيلم (مطر حمص) للمخرج السوري جود سعيد هو الأكثر صدقاً، ونزاهةً، والأهمّ... والأكثر أخلاقيةً من أفلامٍ كثيرة (أنجزها السينمائيون المُعارضون) سوف ينساها التاريخ.
المقال نشرت في صحيفة الدستور العراقية بتاريخ 22.06.2023