رافائيل الفرنسي.. بين إيجيستوس الإغريقي وسيسيل رودس البريطاني
- سعد لوستان

- 22 أغسطس
- 2 دقيقة قراءة

كتب سعد لوستان
حين كتبت "ديليجيوس.. رماد أنطاكيا" لم تكن معركتي مع الشخصيات السورية وحدها، بل مع القوى الخفية التي أدارت خيوط المأساة من وراء الستار. هناك، حيث تستخدم السردية الثورية ستاراً لأطماع النهب وإعادة إنتاج المسألة الاستعمارية، يطل علينا نموذج استعماري-استشراقي حديث، رافائيل.
رافائيل ليس دبلوماسياً فرنسياً فقط ولا وجهاً عابراً في مأساة السوريين، إنه عنصر مؤثر عمل في الظل على صفقات الفساد وإطالة أمد الحروب. هو نسخة معاصرة من سيسيل رودس الذي رفع شعار "التمدين" فيما كانت يده ملطخة بدماء شعوب جنوب أفريقيا. يجمع بين الغطرسة والهشاشة، بين السادية على الضعفاء، والجبن أمام الأقوياء.
كان في دمشق قبل أن تُسحب البعثات الدبلوماسية الغربية عام 2011 يجسد الرجل الأبيض الذي ينظر إلى السوريين كما ينظر صياد إلى طرائد، لا يرد التحية، يخاطب الآخرين بصيغة المفرد المهين، يشيح بوجهه عن شيخ أو امرأة، يتعمد التحقير، ينسحب من أي حديث متى شاء وكأن محدثه بلا قيمة.
والأدهى أنه أدرك مبكراً إحدى العلل المزمنة لدى السوريين: الشعور العميق بالنقص تجاه فرنسا وكل ما هو فرنسي، فاستثمر هذه العقدة في السياسة، وحوّلها إلى أداة رخيصة لتجنيد العملاء وبناء شبكات الولاء على أنقاض الكرامة الوطنية.
أثناء كتابة السيناريو تعمدت أن لا أقدّم الرجل المستعمر الغربي بكليشيهات معتادة، لا وحشاً بأنياب تقطر دماً، ولا نصف إله تحيطه هالة مقدسة، بل كائناً مركباً يجيد ارتداء الأقنعة.
عندما كنت أكتب تعمدت كسر الصورة النمطية عن الغربيين في الدراما العربية، وهنا التحليل البنيوي لشخصية رافائيل، تناقض داخلي بين افتتان خفي بسحر الشرق، وبين قصدية مرضية في تحقير كل ما هو شرقي والتعالي عليه.
هذه المزدوجية ليست تفصيلاً عارضاً، بل لبّ المعادلة المريضة للرجل الأبيض، عدوانية انتقائية، يتبجح بالقوة حيث الأمان، ويصمت بجبن حيث الخطر.
في تركيا كان نمراً على اللاجئين والمعارضة السورية، يطلق صلافته واستخفافه بلا حدود، بينما كان جرذاً أمام المخابرات التركية ورجالاتها النافذين. ويبدأ قناع الغطرسة عند رافائيل بالتصدع فور وقوفه أمام أي مسؤول أمريكي، ليتحوّل إلى وجه متملق، ثم إلى قمة التزلف، كخادم صغير يخلع كل مظاهر التعالي التي يوزعها على الضعفاء، ويكشف طبيعته الحقيقية، تابع يلهث وراء رضا السيد الأكبر.
رافائيل هو إيجيستوس الإغريقي بعينه، ذاك الذي لم يخض معركة ولم يصنع مجداً، بل عاش في الظل متآمراً، ينتظر لحظة الضعف ليغرس سكينه ببطء في لحم الضحية. لا يواجه خصمه في الميدان، بل يغدر به من وراء ظهره، متحالفاً مع كل من يفتح له باباً لمصالحه، أياً كان الثمن.
خطورة رافائيل لا تكمن في كونه "شريراً" كاريكاتورياً، بل في كونه صورة دقيقة لكيفية عمل استعمار القرن الحادي والعشرين، استعمار بربطة عنق وملفات سرية، أكثر فتكاً من أي جيش غازٍ.
رافائيل لا يطلق النار بيده، لكنه يتسبب بمقتل شعوب بأكملها. إنه موظف استخبارات في هيئة دبلوماسي، يشتري الولاءات، ويصنع الخراب، ويغلف السادية بخطاب إنساني بارد.
رافائيل ليس حادثة فردية، بل تجسيد لمنظومة كاملة من موظفين غربيين تسللوا إلى قلب المأساة السورية، صاغوا السياسات، وأداروا الفساد، وضمنوا أن تظل شعلة الكارثة مشتعلة. هو مرآة تكشف أن "الرجل الأبيض" لم يغادرنا قط، بل عاد في ثوب جديد، أكثر نعومة في اللغة، أكثر خسة في التخفي، ولا يقل وحشية في الجوهر.
هذا النموذج المعروف في خضم الأزمة السورية، وبتعريفه الاستعماري والمرضي، ليس لون بشرة ولا جواز سفر، بل منظومة فكرية كاملة ترى في العالم الآخر مادة للنهب والسيطرة وشعوباً قابلة للسحق بلا حساب.
في شخصية رافائيل بعملنا الدرامي المرتقب يلتقي أسوأ ما في الإرث الكولونيالي: سلطة بلا شرف، قوة بلا شجاعة، وتوحش بلا حدود.






























تعليقات