بونغ جون هو يُخطئ الهدف: "Mickey 17 ومأساة التكرار"
- ساندي ليلا
- قبل 13 دقيقة
- 6 دقائق قراءة

كتبت ساندي ليلا:
يقول الشاعر الهندي الرقيق طاغور بعدما أرهقه البحث عن معنى للوجود " لقد ولدت مرات لا تحصى، عشت في الأشجار القديمة، سمعت أنفاسي في نسيم الليل، وما زلت أبحث عن نفسي "
لقرون وقرون كان الخلود أكثر ما يشغل بال البشر، الموت كان مخيفاً غريباً أبدياً، العدو الذي يستحيل أن تهزمه مهما فعلت، تتجدد الحياة باستمرار تتغير وتتحول لكن هناك خاتمة واحدة أبدية لها هي الموت.
لطالما اعتبر الخيال البشري أن الخلود نعمة أو هبة ينبغي السعي إليها بجد وشغف كي تنالها، فنسجوا القصص والأساطير والحكايات عن آلهة وعن مخلوقات خارقة للطبيعة جميعها نالت ما تتوق له أنفسنا البشرية باستمرار الخلود.
لكن ماذا لو كان الخلود أسلوب عقاب لا استحقاق؟ ماذا لو كان الخلود وسيلة لإهانة قيمة الحياة نفسها؟ سؤال فلسفي عميق جعل منه فيلم Mickey 17 أساساً له محاولاً طرح تساؤلات متنوعة عن الوعي والهوية والحرية، ولأنه من إخراج بونغ جون هو الرجل الذي أذهل العالم كله بتحفته الأسطورية الطفيلي كان ميكي 17 عملاً منتظراً بشدة، فهل ارتقى إلى مستوىParasite؟ هل نجح بونغ جون هو في إثارة اهتمام عالم السينما مرة أخرى؟ أسئلة سنقدم لها إجابات شافية في هذه المراجعة
ميكي 17 .. أن تفقد الحياة معناها
تدور أحداث الفيلم في زمن مستقبلي بعيد في عام 2050 بالتحديد، زمن اكتسح فيه البشر الفضاء الخارجي بغرض إنشاء مستعمرات خارجية بعدما ضاقت بهم رحاب الأرض، نتعرف على بطل الحكاية ميكي بارنز الشاب النحيل البائس الذي ينضم رفقة صديقه تيمو إلى طاقم سفينة متجه لاستعمار كوكب جليدي قاحل يدعى نيفيلهايم، ميكي ليس إنساناً عادياً إنه "مستهلك " كلما مات يولد من جديد بنسخة أخرى تحمل ذات وعيه، الجسد نفسه الذكريات نفسها والمصير المظلم ذاته، أن يرسل في مهمات عسيرة تنتهي جميعها بنفس الطريقة موته.
لقد مات ميكي 16 مرة بطرق وحشية لا رحمة فيها، إنه فأر تجارب بشري، حياته بلا أي قيمة وجوده يقتصر على حتمية موته لأجل إيجاد أفضل طريقة ممكنة لاستعمار الكوكب.
لكن نسخته الـ17 كانت مختلفة عمن سبقها، بمعجزة أسطورية لم تمت هذه النسخة بعدما أنقذت بواسطة مخلوقات نيفيلهايم وعاد ميكي إلى القاعدة بوعي حقيقي مختلف عن النسخ السابقة، لقد سئم الموت، إنه يريد الحياة، والحب، والكرامة، فقط كي يجد أن هناك نسخة أخرى منه صنعت بعد أن أبلغ تيمو طاقم السفينة بموته، لينشأ صراع فريد من نوعه بين النسختين إذ أن كليهما يرغبان في الحياة لكن هذا العالم لا يتسع لنسختين.
تتابع أحداث الفيلم بمزيج من الدراما والكوميديا السوداء ليغوص بنا الفيلم في معضلة أخلاقية عن الهوية والتفرد والموت الذي لا يترك معنى للحياة، يأخذ بونغ جون هو راحته حتى أقصى حد ويطرح مواقف عبثية ساخرة ولحظات كوميدية غريبة في انتقاد واضح اللهجة تجاه السياسة الأميركية المتجددة المتمثلة بدونالد ترامب.
رغم عمق فكرة الفيلم وأهميتها إلا أن الفيلم لم يرتق لمستوى فلسفته، رغم وجود الكثير من عوامل النجاح الممكنة إلا أنه لم ينجح في استغلالها بالشكل الأمثل الذي كان ليجعله واحداً من أهم أفلام العام.
باتينسون المتجدد المبدع باستمرار
منذ ظهوره الأول استطاع روبرت باتينسون أن يلفت الأنظار إليه بسرعة، ملامحه الباردة الكئيبة وجسده النحيل تحولا إلى عامل تفرد ميزه عن أي ممثل آخر.
يمتلك باتينسون قدرة فريدة على اختيار أدوار قوية تشكل أغلب الأوقات نقلة نوعية في مسيرته المهنية، وفي Mickey 17 أثبت باتينسون نضجاً فنياً ملموساً، وقدم أداء استثنائياً بشخصية ميكي بارنز العامل المستهلك الذي يعاد استنساخه بعد كل مهمة قاتلة يخوضها لقد نجح باتينسون في تجسيد المعاناة الضياع الألم الذي يعيشه ميكي بشكل أبدي.
لا يمكن لأحد شاهد الفيلم أن ينسى المشهد الأيقوني الذي جمع بين نسختي ميكي، مشهد سيريالي خارج من عوالم ستيفنسون الغريبة، لقد أبدع باتينسون في تجسيد النسختين لدرجة جعلنا مقتنعين أننا نشاهد شخصين منفصلين بحق، كما أن أداءه أضفى لمسة كوميدية غريبة على الفيلم، وكان غريب الأطوار بطريقة ساحرة محببة.
لقد كان أداء روبرت باتينسون نقطة القوة الأبرز في عمل افتقد الكثير من عناصر القوة خاصة فيما يتعلق بالشخصيات الثانوية.
يتمركز الفيلم حول ميكي لذا فقد كان التركيز على الشخصيات الثانوية ضحلاً إلى حد كبير، لكن يصعب بحق أن تتجاهل الأداء الاستثنائي للرائع مارك روفالو الذي خرج مجدداً من عباءة الرجل الطيب الحنون متقمصاً شخصية كينيث مارشال القائد الأعلى للمهمة الفضائية.
لم يكن مارشال محبباً بالضبط، إنه مزعج متسلط غريب الأطوار، لكن أداء روفالو منحه كاريزما محببة وحضوراً طاغياً على الأحداث خاصة أن كينيث مارشال يبدو وبشكل مريب شديد الشبه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب خاصة في مشهد إلقاء الخطبة التشجيعية لطاقم السفينة المتضور جوعاً، إنه شخصية فجة مبتذلة كرتونية ما كان لممثل سوى مارك روفالو ليقدمها بهذه الطريقة الجذابة التي جعلت وجوده ضرورياً بشدة وعاملاً فارقاً في الأحداث.
فيما قدم ستيفن يون شخصية تيمو صديق ميكي الذي يرافقه منذ أول لحظة، لا يمكن قول الكثير تجاه هذه الشخصية في الواقع فظهوره محدود للغاية إضافة إلى أنها لم تكن شخصية عميقة ذات تأثير حقيقي، وهي مشكلة عانت منها أغلب شخصيات الفيلم التي بدت كأنها مجرد إضافات لا داعي لها في أحداث الفيلم، لقد كانوا موجودين فقط كي يكون هناك أناس حول ميكي لا أكثر في هفوة ما كان لها أن تكون في عمل من إخراج مخرج استثنائي كـ بونغ جون هو.
لقد امتلك الفيلم طاقم عمل مميزاً لكن أسلوب للكتابة وطريقة تقديم الشخصيات لم تكن ملائمة بالشكل الكافي ولولا ثنائية باتينسون وروفالو الرائعة لكان الفيلم قد سقط سقطة مدوية لا إنقاذ منها.
هوية بصرية مذهلة
تتجاوز الهوية البصرية في Mickey 17حدود الصورة لتصبح مرآة عاكسة لفلسفة الفيلم الوجودية، فمنذ مشاهده الأولى، يرسم الفيلم عالماً مستقبلياً قاحلاً جافاً يخلو تماماً من الدفء الإنساني.
الألوان الباردة مثل الأزرق الرمادي والأبيض والأسود العميق تُهيمن على كل مشاهده، لم يكن هذا الاختيار اللوني قادماً من فراغ، بل كان موجوداً كي يخدم فكرة الفيلم الأساسية المتمثلة بالانفصال عن الذات والآخر، ويعزز ذلك الشعور الذي يراود ميكي بلا هوادة شعور اللانتماء.
نعيش مع ميكي في عالم يبدو صناعياً بالكامل، لن تجد في ذلك العالم شجرة مورقة أو زهرة رقيقة فذلك العالم المستقبلي يخلو من الروح، إنه بارد جامد يجعلنا نشعر كأننا داخل مختبر عملاق تتكرر فيه النسخ ويتلاشى فيه الأفراد.
تلعب الإضاءة دوراً جوهرياً في تعميق هذا الإحساس، حيث تستخدم الأضواء الصناعية بكثرة كي تفضح التفاصيل وتبرز هشاشة الجسد الإنساني، خاصة في تلك المشاهد عندما يعاد إنتاج ميكي في كل مرة.
لا نرى الشمس كثيراً، ولا نشاهد أي لمحة من دفء الطبيعة، في انعكاس لحقيقة أن الإنسان بات محاصراً ضمن بيئة هندسية صارمة تُعيد خلقه دون أن تترك له مساحة ليكون نفسه.
تصميم الشخصيات والبيئات لا يقل أهمية عن الألوان والإضاءة، إن كل ما حول ميكي يوحي بالتكرار والتنميط البدلات متطابقة، الغرف متشابهة وحتى تعابير الوجوه في كثير من الأحيان تبدو ميتة تخلو من الحياة، هذا لا يدل فقط على استنساخ الجسد، بل على تسطيح التجربة الإنسانية ككل، وما يلفت النظر أيضاً أن الفيلم لا يُفرّق بصرياً بين النسخ، الأمر الذي يزيد من شعورنا كمتفرجين أننا أيضاً عاجزون عن التمييز، ونغرق مع البطل في هذه الدوامة الوجودية.
لقد كرّست الهوية البصرية للفيلم فكرة فقدان الهوية، وتلاشي الفرد في نظام لا يعترف بالذات، وكانت _ وبحق_ نقطة جذب مهمة في عالم الفيلم.
هل نجح بونغ جون هو في تحقيق نجاح جديد؟
رغم كل المقوّمات التي امتلكها ميكي 17 من فكرة فلسفية مهمة، ومخرج استثنائي، وممثل بارع هو روبرت باتينسون، إلا أن النتيجة النهائية لم تكن على قدر التوقعات العالية، فقد بدا الفيلم كمن يحمل حملاً أكبر من أن يحتمله، كأنما وعدنا بشيء مهم لكنه عجز عن الوفاء به.
تلك الفكرة الاستثنائية التي كان من الممكن أن تُبنى عليها ملحمة وجودية خالدة، تحولت إلى تأملات متفرقة مشوشة تتنافر في عوالم باردة خالية من الإنسانية، لم يكن هناك تصعيد حقيقي ولا عمق فعلي في طرح الأسئلة الفلسفية وانشغل الفيلم في أغلب أحداثه في توجيه الانتقادات الساخرة للسياسة الأمريكية.
بدا الفيلم أحياناً وكأنه يهرب من المواجهة، يكتفي بالإيحاء دون أن يغوص فعلياً في جوهر ما يطرحه، الأسئلة الكبرى التي أثارها عن الهوية والموت والمعنى لم نجد لها أي إجابات، ولا حتى صدى بل ضاعت وسط فوضى سردية، وشخصيات ثانوية باهتة، تفتقر للروح والدافع المنطقي.
بونغ جون هو الذي عودنا على أعمال ذكية توازن بين الطرح العميق والبنية الدرامية المحكمة بدا هنا متردداً تائهاً، إنه خارج عالمه المألوف خارج وطنه ولعل هذا ما جعله عاجزاً عن إيجاد نغمة الفيلم الحقيقية.
رغم وجود هوية بصرية استثنائية وفلسفة مميزة إلا أن ضعف السرد وتسطح الشخصيات أفقد الفيلم كثيراً من سحره، وتأثيره.
إن Mickey 17 ليس فيلماً فاشلاً بالقطع لكنه أشبه بنسخة مشوهة من فكرة عظيمة، إنه فيلم تائه كأبطاله في دوامة من التكرار لا هو ينتمي للحياة ولا هو قادر على الموت بكرامة.
وفي النهاية يمكننا القول أن Mickey 17 لم يكن سوى تذكيراً قاسياً بأن الطموح وحده لا يكفي لصنع فيلم عظيم، وأنه حتى المخرجون الكبار قد يسقطون في فخ الابتذال والهجاء غير الممنهج.
سيظل Mickey 17 أعواماً كدليل مؤلم على أن مخرج فيلم Parasite لم ينجح في تكرار سحره.
Comments